المعرض السنوي للفنون التشكيلية: خمسة عقود من صناعة الدهشة العابرة للزمن والحدود

هل يمكن اختصار 50 عاماً من الفن في مكان واحد، بل في وقت واحد وحدث واحد؟
بالرغم من أن هذه المهمة تبدو صعبة جداً، خصوصاً إذا كانت مرتبطة بحدث فنّي مثل معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية، الذي كان شاهداً منذ انطلاقته عام 1972م على مرور عشرات، بل مئات، من المبدعين والمبتكرين وصانعي الدهشة والمؤثرين في صياغة قيم الجمال والفن في البحرين وخارجها، إلا أن هيئة البحرين للثقافة والآثار، وبشكل استثنائي وفريد، نجحت في تحقيق هدفها محتفيةً هذا العام باليوبيل الذهبي للمعرض الذي يعتبر وجهة أساسية للفنون التشكيلية والبصرية محلياً، ويحظى باهتمام الفنانين والجمهور والنقّاد عربياً، وتمكنت من صنع لوحة، أو لِنَقُل آلة، زمنية تروي حكاية نصف قرن من الجمال والإبداع.
فتح المعرض أبوابه نهاية يناير 2024م واستمر لثلاثة أشهر، وقد كان صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، قد أناب سمو الشيخ محمد بن سلمان بن حمد آل خليفة لافتتاح المعرض.
منذ لحظة الدخول إلى متحف البحرين الوطني تبدأ التجربة الفنية، التي انقسمت إلى ثلاثة أجزاء: الأول والرئيسي هو عبارة عن قاعة المشاركات السنوية وفيها صنع 59 فناناً وفنانة من البحرينيين والمقيمين والروّاد والمؤسسين والمواهب الصاعدة عالماً مدهشاً من الألوان والأشكال، وقدّموا فيها توليفة من الإبداعات عكست غنى المشهد الفني في البحرين. ناقشت الأعمال الفنية المعروضة مواضيع مهمة مثل الهوية والثقافة ورؤى مختلفة عن العالم بطرق غير تقليدية وتقليدية باستخدام اللوحة والتركيب والصورة الفوتوغرافية والكولاج.
ومَن حظيَ بالتجوّل في أرجاء هذه القاعة، لفتت نظره ثلاثة أعمال مميزة عن غيرها، ربما بالعلامات التي تشير إلى فوز أصحابها بجوائز المعرض هذا العام، أو بالتأكيد لأنها كانت ذات قوة جذب بصري وفكرة عميقة مختلفة. فلجنة تحكيم المعرض اختارت فائزَين اثنين بجائزة الدانة، وهي الجائزة الأولى للمعرض، وهما الفنانان هشام شريف عن عمله “ليالي الإثنين في العدلية” والفنان جعفر الحداد عن عمله “اثنا عشر”، فيما فاز بجائزة مساحة الرواق للفنون “جائزة الرؤية الفنية” الفنان أشرف علي عن عمله “الإناء”.
وإلى جانب هذه القاعة، يتضمن الاحتفاء باليوبيل الذهبي لهذا الحدث الفني، معرضَين مصاحبَين، الأول هو “نصف قرن من الفنون”، وهو يحتفي بخمسة عقود من الإبداع الفنّي في البحرين ويكرّم عدداً من الفنانين والأعمال الفنية التي كان لها دور بارز في تشكيل المشهد الثقافي المحلي، ومن هذه الأعمال جزء ينتمي إلى مجموعة متحف البحرين الدائمة التي تعود إلى ما قبل افتتاح المتحف عام 1988م، وهي مجموعة تتألف اليوم من أكثر من 5000 عمل. يضم المعرض إبداعات تعود إلى عام 1972م، مثل لوحة “موت فنّان” ليعقوب يوسف قاسم، مروراً بأعمال لفنانين كبار أمثال عبد اللطيف مفيز، وناصر اليوسف، وحسين السنّي، وراشد العريفي، وعبد الإله العرب، وسامية إنجنير وغيرهم، وصولاً إلى فنانين معاصرين مثل هلا آل خليفة، ونادر العباسي، وخالد فرحان، وهشام العمال.
أشتغل على كتاب سردي لا أسميّه الا سيرة أحاول فيه ملء تلك الثغََّرات التي تركتها في قصائدي
وفي البهو الرئيسي لمتحف البحرين الوطني، كان المعرض المصاحب الثاني، الذي احتفى بمجموعة من الفنانين المؤثرين الذين تركت مساهماتهم بصمة دائمة في المشهد الفني التشكيلي. هؤلاء الفنانون لم يقدّموا أعمالاً فنية مبدعة فقط، بل كانوا أيضاً معلمين ومرشدين لأجيال من الفنانين الصاعدين في البحرين من خلال تقديمهم لورش العمل والمحاضرات، إضافة إلى دورهم الذي استمر لعقود كسفراء للفن البحريني حول العالم. ومن أبرز الأسماء الذي برزت في هذا المعرض: راشد آل خليفة، وعدنان الأحمد، وعبد الرحيم شريف، وكميل زخريا، وعلي المحميد، ومياسة السويدي، وعباس الموسوي.
لم يقتصر معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية في نسخته الخمسين على التجارب الغامرة لقاعاته ومعارضه المصاحبة، بل استمر طيلة مدة إقامته في صناعة حوار فني عبر تنظيم أنشطة وفعاليات وورش عمل وندوات وجولات شكلت مساحة مشتركة تلاقَى فيها الجمهور مع الفنانين في مشهد عكس الرغبة المتزايدة لدى الجمهور في الاطلاع على هذا المجال الثقافي الهام وسعي الجهات الرسمية في البحرين وحرص الفنانين على الوصول بأفكارهم ومحاولاتهم إلى تعزيز الوعي حول القضايا المحلية والعالمية، ليس بالكلمة المنطوقة، بل بجمال ضربة الفرشاة وقوة اللون وسحر الشكل.