جحيم امرأة

جحيم امرأة

نصوص 

جحيم امرأة 

د. منصور نعمان*   

                    

الشَّخصيات: 

الرَّجل 1 

الرَّجل 2 

جنَّة – امرأة 

 

المشهد الأول: 

(الفضاء المسرحي خالٍ وشبه معتم، إلا من أشعّة قمر تتوسَّط أعلاه. يدخل الرَّجل باحثاً عن شيء ما، ويتحرَّك وقد انتابه القلق، وتسمع رشقات ماءٍ لنهرٍ مجاور، يتوقَّف متسمّراً، تتصاعد دقات قلبه تدريجيّاً مع حواره). 

الرَّجل 1: ليست هنا كما وعَدَتني. لم تأتِ! ما الذي أخَّرها؟ ربَّما غيَّرت رأيها! لكنَّني شدَّدت على المكان ههنا، الذي شهد لقاءاتنا السَّابقة (يتحرَّك في المكان) وكأنَّنا لم نضرب موعداً (يجلس على مرتفع صغير). صرتُ أفكّر فيها ليل نهار، ولا أجد خلاصاً منها. إنّها تحتوي تفكيري، بل سطتْ على أنفاسي، وما عدتُ قادراً على التَّنفس إلا من خلالها. أيَّتها المرأة! كيف خُلقتِ؟ ما الذي أعطاكِ هذه السَّطوة والجبروت والعناد والمكابرة؟ (بألم) لقد صرتِ وطناً لي، ومن دونك لا أستطيع العيش، بل سأكون غريباً حتَّى عن نفسي (يطرق برأسه، وبعد لحظات تسمع خطوات، فيقفز الرَّجل 1 وينهض) جنَّتي! جئتني أخيراً!؟! 

الرَّجل 2: أتنتظر أحداً؟ 

الرَّجل 1: لبرهة ظننتُ… بأنَّك 

الرَّجل 2: جنَّتك... سمعت الاسم، لا عليك. حياتنا مليئة بالأسرار، وهذا السّر الصَّغير لن أبوح به لأحد... لأنَّني أعرف. 

الرَّجل 1: وما أدراك؟ 

الرَّجل2: أنا رسولها إليك. طلبتْ أن أبلغك أن تعود إلى بيتك، فالمكان لا يناسبك، فعُد من حيث جئت. 

الرَّجل1: أهي من قالت ذلك؟ 

الرَّجل2: نعم، ومن الأفضل أن تعود أدراجك من حيث أتيت. 

الرَّجل1: أنت على صلة بها؟ 

الرَّجل2: تستطيع قول ذلك. 

الرَّجل1: أتحبُّها مثلي؟ 

الرَّجل2: من لا يحبُّها؟! إنّها جنَّتنا. 

الرَّجل1: بل جنَّتي وحدي. 

الرَّجل2: مخطئ يا صديقي. أنا الأقرب إلى قلبها. أنا أعشق روحها المتأجّجة، مثل كرة الجحيم. 

الرَّجل1: ياه… أتصفها بكرة الجحيم!؟ إنّها حبيبتي 

الرَّجل2: لتكن حبيبتك، وحبيبتي في الوقت ذاته، فكلنا عاشق لنيرانها، ألم تكتوِ بلظاها؟ 

الرَّجل1: أكيد، وإلّا، ما الذي جاء بي في هذه الليلة المقمرة قرب الشَّاطئ، وأكاد لا أرى شيئاً، غير أنَّني مجبر على ترقّب قدومها، أمتأكّد من أنَّها لن تأتي؟ 

الرَّجل2: (يضحك) يا للعاشق… إحساسك يمنعك أن تصدّقني. 

الرَّجل1: لا أدري، ثمَّة أمرٌ ما أحسُّهُ، كأنّي أشمُّ رائحتها عن بُعد، ألستُ محقّاً!؟ أجبني لطفاً، فقلبي يشتعل بنيرانها. 

الرَّجل2: تحبُّها، ذلك سلوك رجل أضاع كلَّ شيء وتمسَّك بحبيبته. 

الرَّجل1: ما عدتُ أرى شيئاً. فقدتْ الأشياء قيمتها. لقد صارت جنَّتي وطناً لي. 

الرَّجل2: أعرف، وأتفهَّم ما تحياه اللحظة. 

الرَّجل1: أين هي؟ أين ذهبت؟ لِمَ لمْ تأتِ إليّ. لقد ضربتُ موعداً معها. 

الرَّجل2: لكنَّها لا تريد لقاءك، برِمَت منك. 

الرَّجل1: وما أدراك!؟ هل كلَّمتك عنّي؟ 

الرَّجل2: لا 

الرَّجل1: من أين جئت بهذه الأفكار إذن؟ 

الرَّجل2: لأنَّني أغوص في أعماقها. 

الرَّجل1: تعشقها مثلي؟! 

الرَّجل2: أعشقها، لكنّي أعشقها كرهاً، فلستُ مثلك 

الرَّجل1: غريب! كيف تكره من تعشق؟ أيكره الجسد نفساً بين أحشائه؟ 

الرَّجل2: حين لا تطيق النَّفس جسدها، تعدّه سجناً لها، وتبحث عن حرّيَّتها بالخلاص منه. 

الرَّجل1: اسمع، دُلَّني على مكانها، أريد رؤية جنَّتي. 

الرَّجل2: تبحث عن سجنك. 

الرَّجل1: بل وطني أيُّها المعتوه. 

الرَّجل2: نعم، إنَّها رأتك، وكانت تتابعك، فأرسلتني إليك. 

الرَّجل1: أين؟ أريد رؤيتها، أرجوك، لا تُخفِ عنّي شيئاً. 

الرَّجل2: هناك في الأعلى، كانت ترقبك 

الرَّجل1: وكنتَ معها، أليس كذلك؟ ماذا قالت؟ أجبني. أريد أن أعرف. أريد أن أفهم من أكون بالنّسبة إليها. لا تصمت أرجوك. أما كفانا صمتنا طوال قرون؟ آن أوان الرُّوح. 

الرَّجل2: ياه أيَّها الرَّجل. إنّها تحبُّك. 

الرَّجل1: أعرف… أكيد تحبّني، أحسُّ بذلك. 

الرَّجل2: لكنّها تخافك. 

الرَّجل1: أين هي الآن؟ 

الرَّجل2: في أعلى المرتفع هناك. 

(يتحرَّك الرَّجل1 مسرعاً باتّجاه المرتفع، ويبقى الرَّجل2 يتابعه) 

 

المشهد الثاني 

(أعلى المرتفع، الرَّجل1 جلس على صخرة صغيرة وبدا منهكاً وهو يجول بعينيه في المكان) 

الرَّجل1: لِمَ تتهرّب منّي وأنا أعشقها؟! أم أنَّ العشق عذابٌ لها!؟  

(يظهر الرَّجل2 من زاوية مقابلة، ينتبه إليه الرَّجل1) 

الرَّجل2: أَهربتْ؟ 

الرَّجل1: أكنتَ تعلم بأنَّها ستهرب. 

الرَّجل2: لا… لم أكن أعلم، لكنّي توقَّعت ذلك. 

الرَّجل1: كيف؟ ولِمَ تهرب منّي!؟ 

الرَّجل2: تخافك. 

الرَّجل1: ولِمَ لا تخافك؟ ألم تكن معها؟! 

الرَّجل2: لسبب بسيط؛ أنت تحبُّها بكراهية المحبّ، وهي تكرهك بحبِّ المحب. 

الرَّجل1: ما هذه المعادلة الغريبة؟ كيف تجمع النَّقيضين؟! 

لا عليك الآن، قل لي أين ذهبتْ الآن؟ أرجوك يا رسول الحبّ والكراهية. 

الرَّجل2: أتنوي مطاردتها؟ 

الرَّجل1: بل تعقّبها.. أنا عاشق لجنَّتي.. أتعلم كم كانت مطيعة، سلسة، مُحبّة. 

الرَّجل2: لمَ تركتكَ إذن؟ 

الرَّجل1: ألم تقل لي: خوف، خشية، أو مهابة!! 

الرَّجل2: اتركها إذن. دعها تحيا الحياة بعيداً عنك. 

الرَّجل1: لا أستطيع. أنا أسيرها. 

الرَّجل2: أهي سجنك، أم حرّيّتك؟ 

الرَّجل1: كلاهما، بدون سجني لا أعرف طعم الحرّية. 

الرَّجل2: يا للعاشق الذي يفقد نفسه. 

الرَّجل1: لأنَّها نفسي، ألم أقل لك إنها وطني؟ قل لي أين ذهبت لأتبعها، وأراها، وأكلّمها. أريد محو مخاوفها وأعيدها إليَّ. 

الرَّجل2: إلى سجنك؟ 

الرَّجل1: لستُ سجَّاناً لها، أنا بمثابة وطن لها. 

الرَّجل2: اذهب عند حافّة النَّهر، ستجدها وحيدة. 

 

المشهد الثالث: 

(جنَّتي واقفة، ويسمع صوت رشقات النَّهر الهادئة. يدخل الرَّجل1، يتأمَّلها، يقترب منها، يركع بالقرب منها تنتبه إليه، يمسك بيدها). 

الرَّجل1: إن كان الحبُّ محرَّماً، لأقتل نفسي، وأمُوت بحبّك. فالموت من أجل الحبيب ليس موتاً. 

جنَّة: أنت، عدت تبحث عنّي! 

الرَّجل1: أسألك جنَّتي، كيف حالي؟! 

          أسألكِ كيف حالي؟ 

جنَّة: ولِمَ تسألُني؟! وأنت أدرى بحالك… ولِمَ لمْ تفكّر بي، وأسألك كيف حالي!؟ 

الرَّجل1: أحسُّ بأنَّكِ سعيدة. 

جنَّة: وما أدراك بهمّي وشجني وألمي؟! 

الرَّجل1: لأنَّني لا أرى شيئاً مما تقولين. 

جنَّة: وهل يُرى الألم!؟ 

الرَّجل1: إشارات، ويفهم الألم يا جنَّتي. 

جنَّة: لا أطلق شفرات. أنا كتومة، حريصة على ألّا أبوح بما أحسّ. 

الرَّجل1: ألا تحسّين بي أيَّتها النّار التي نهشت جسدي؟! 

جنَّة: وأنت نهشتَ نفسي. كنتَ قاسياً معي. 

الرَّجل1: أُحبُّكِ. 

جنَّة: أتحبُّني حقّاً 

الرَّجل1: أُحبُّكِ بكلّ ما أملك… وأنتِ؟ 

جنَّة: عن نفسي، لا أحبُّك. حبُّك ليس بكافٍ. أنا أعشقك، صرتُ تائهة بك ومعك، وما صدَّقت نفسي. إنَّ قلبي يرتجف حين أراك، ويعتصر قلبي الحزين حينما تغيب عنّي. ألفتك بجنونك، وحنقك، وسخرياتك المُرَّة. وجودك صار جزءاً من حياتي أيُّها الحبيب الغالي.. أعشقك أيُّها النَّجم البازغ في ظلمة أيَّامي. 

الرَّجل1: لا أصدّقك! 

جنَّة: أنا نفسي لا أصدّق نفسي، وأقول: أكذبةٌ حبّي لك؟ 

الرَّجل1: لم أكن الرَّجل الوحيد. 

جنَّة: أجل، وتلك مفارقة. لم تكن الوحيد الذي استوطن قلبي، لكن لم يخفق القلب رعباً حين أراك. 

الرَّجل1: لم يخفق لي وحدي… كنتِ أرملة لرجل أحببته. 

جنَّة: هذا القلب اللعين.. هذه العضلة الغريبة الأطوار، لا تدلّني على الطَّريق الصَّحيح. أتثق بجنّتك؟ 

الرَّجل1: أثق بكِ ناراً يا جنَّة، بل بوابات من الجحيم، لكنّي أعشقك، كما أنتِ، لا كما تشتهي نفسي. أعرف من تكونين، ومع ذلك أُحبُّك، وتدميرك لكلّ من عشقك، بل نصبتِ لهم المشانق، وزججتِ بهم في سجون سرّية، وشوَّهتِ قسماً منهم، ومع ذلك أحببتُكِ بجنون. 

جنَّة: مجنونة عشقت مجنوناً. 

الرَّجل1: لكنّي لست جحيماً. 

جنَّة: أنا جنّتك، وإن كنتَ جحيماً، فقد استوطنت قلبي 

الرَّجل1: أيُّ جنَّة توقد اللظى وتشعل الجمر؟! ربَّاه لِمَ جعلتني مسحوراً بهذه المرأة الجهنَّمية. إنّها                                                                 تجعلني وقوداً لجبروتها، لصلفها، لعنجهيَّتها! 

ربَّاه، أما من شفاء منها؟ أريد أن تبرأ نفسي منها، أن أتخلَّص، أن أُعتق، كرجل حرّ. 

جنَّة: حبيبي… أتأسَّف على حبّك لي. إنّي طهور من الأرذال.، لقد تعمَّدت بالنَّار بدلاً من الماء. 

الرَّجل1: ومن سُفِك دمُه؟ ومن قُتل بغير ذنب، إلا ذنب حبّه لكِ؟ يا امرأة النَّار، أطفئي شوقي، ابرمي نارك، أوقدي كورة النار. 

جنَّة: لا… ما آن الأوان بعد، دعنا… دعنا نَلْهُ قليلاً، فكلُّ الحروب والاقتتال والاصطراع كان دفاعاً عن حبّي لك، حب انتظرته قروناً، وكأنَّك تأتي من بعيد… من زمن غابر، زمن لا أعرفه، لكنّه يعرفنا معاً، أيُّها المجنون، التَّائه، الغريب القريب. تعال إلى الحبيبة جنّتك. 

الرَّجل1: نعم، أيَّتها الإلهة السَّاحرة، المأخوذة بها، أطفئي شوقي والتياعي. اقتلي حبّي بنارك. اصنعي مني أيقونة لزمن الحب والموت. 

جنَّة: أيَّها الحبيب… تعال… تعال إليَّ. 

الرَّجل1: حبُّك نار، والبُعد عنك نار، فأيّ النَّارين أقرب إلى نفسي؟ لكنَّك الوطن الذي ألجأ إليه، فأنت كلّ شيء، وأنت اللا شيء معاً. 

جنَّة: أيُّها الغريب القريب، البعيد والدَّاني، رُبَّ خطيئة اقترفناها، وحبّنا كان النَّتيجة. 

الرَّجل1: أوُلِدنا قبل الأوان، أم بعده!؟ 

جنَّة: ما دمنا التقينا، وآمنتَ بي، وهدأت نفسي إليك، فكلُّ خساراتنا ربح… حتّى حياتنا التي نخسرها، ربح. 

الرَّجل1: لا أطيق خسارتك، وإن كانت بعض الخسارات لا تعوَّض. 

(تمسك بيده ويمشيان معاً) 

 

المشهد الرابع: 

(في الخلف ألسن النّيران تتصاعد في خلفية المسرح، ويقف كلٌّ من الرَّجل1 وجنَّة، وكأنهما وسط النّيران) 

جنَّة: من أجل خلود حبّنا، علينا أنْ نحترق. 

الرَّجل1: ولِمَ لا نحيا معاً، بعيداً عن النَّار؟ 

جنَّة: النَّار حياة.. موت حياة وميلاد أخرى.. أحبُّك رجلاً في حياتي، يستميت بحبّي، يجازف من أجلي، يقاتل ويقتل.. 

الرَّجل1: أيُّ حبيبة! أيُّ وطن أنت!؟ 

جنَّة: كلّ جراحاتي لملمتها، وكلّ آمالي العراض الممتدة فوق الأرض صنعتها بنفسي. 

الرَّجل1: ولِمَ النار يا جنَّة؟ 

جنَّة: لأنَّني جنَّة.. حبُّك نار.. وجودك نار، أحبُّك مثل نار تأكل الهشيم.. فما الحياة غير موت.. ومن أجل الحبيب تموت. 

الرَّجل1: هل سألقاك؟ أتعودين إليّ!؟ لن أستطيع العيش بدونك. أنتِ نار الحياة.. وطن كفيف وكسيح.. يتسلَّقني الحزن حين لا أراكِ، ويطبق على أنفاسي حين تهربين منّي. يغمرني الحزن قبل عواصف تسونامي، مثل هزّات رختر بأعلى درجاته. أيَّتها المرأة المولّدة للآلام، صانعة الموت، جرّيني إلى حتفي، فدونك حتفي. فالموت لأجل الحبيب ليس بموت. 

(تزداد ألسن النيران) 

جنَّة: ستكون سعيداً بخلاصك، سأكون بقربك، إلى جانبك. 

الرَّجل1: لا.. أريدك داخلي، تغلغلي بأعماقي. 

جنَّة: لندخل إلى النَّار. 

الرَّجل1: قشعريرة تنتابني 

جنَّة: لا تخشَ النَّار. فالنَّار لا تؤذي النَّار. 

الرَّجل1: وماذا بعد؟ 

جنَّة: ستكون برداً وسلاماً. 

الرَّجل1: ونصير رماداً. 

جنَّة: ويكون كلانا من الخالدين، مثل كلكامش الباحث عن الخلود. 

الرَّجل1: لكنه فشل وعاد إلى أوروك. 

جنَّة: لأنه ضلَّ سبيل السّعادة. لم يفكر كما أفكّر. خاب سعي كلكامش بعد أن سرق الطّائر عشبة الخلود. أمَّا أنا فلا يا حبيبي. فعشبي النَّار، تلك السَّطوة الجبَّارة، ذلك اللّون الباهر، الطقطقة المذهلة للحطب. تعال، أقاسمك ناري.. اقترب.. ادخل جنَّتي التي أُحب.. ما من رجل تقاسمها أكثر منك، أنت الأقرب لقلبي، أودعتك كلَّ شيء، وكشفتُ كل أسراري. 

الرَّجل1: وتهربين بعدها 

جنَّة: لا أهرب منك. وإن هربت، فأنا أهرب إليك من نفسي، فأنت نفسي. سنكون معاً، خالديْن، عاشقيْن للحياة والموت. 

(صوت طقطقة الحطب وتعالي ألسن النّيران) 

ادخل بوَّابات روحي العاشقة الملتهبة. سأمنحك وسام حبّي للأبد. 

(يدخلان معاً) 

الرَّجل1: لا أحسُّ بشيء. 

جنَّة: برداً وسلاماً أيُّها العاشق. 

الرَّجل1: أيُّ نار ساحرة. 

جنَّة: ستكون لي للأبد، لن يفرّقنا شيء، صرتَ ناراً مثلي… فالنَّار لا تأكل النَّار. 

الرَّجل1: دلّيني عليك أيَّتها الحبيبة. 

جنَّة: تعالَ إليَّ.. تعالَ لنرقص معاً، ونلهو وسط النّيران. 

(يتعالى صوت قرع طبول أفريقية، وصيحات، وهمهمات، وتهاليل، ولغة غير مفهومة مصاحبة لرقصة الاثنين. تخبو النّيران تدريجيّاً حتى تنطفئ) 

 

المشهد الخامس: 

(المكان خالٍ إلّا من الرَّجل1 الذي بدا يمشي بتؤدة، بيده شمعة تضيء له الظُّلمة، يدور بالمكان، ويطلق همهمة يترنَّم بها) 

الرَّجل1: في عالم آخر لا أعرفه. تمرق أمامي أشكال غريبة تزيد من وحشتي وحاجتي إليكِ.. أيتها الجنَّة الخالدة. 

جنَّة: (يسمع صوت جنَّة من بعيد) من يناديني؟ 

الرَّجل1: جنَّتي!! أتسمعينني!؟ إنّني لا أراكِأين أنتِ؟ لِمَ تركتِني وحيداً؟ لقد أفلتِّ نفسكِ منّي ونحن نرقص معاً. 

جنَّة: سبقتك يا حبيبي. 

الرَّجل1: اجتاحني الشَّوق إليكِ من جديد… قلبي يا جنَّتي لا يحتمل الفراق. 

جنَّة: لكنّي لستُ مثلك أيُّها البطل… أنا، قادرة على الفراق. 

الرَّجل1: لا… لا… لا… أنا أنفاسك 

جنَّة: تعالَ…تعالَ إليَّ أيُّها المعتوه. 

الرَّجل1: أين؟ أين أنتِ!؟ أنا لا أرى شيئاً. 

جنَّة: لكنّي أراك… تقدَّم… لا تخف. 

الرَّجل1: فزعت يا جنَّتي، فقد رأيتُ أشكالاً تشير إليَّ. 

جنَّة: أعرفتها!؟ 

الرَّجل1: بعضها وليس كلّها… كانوا يشيرون إليّ... 

جنَّة: يا سلام…! 

      إنهم يدعونك للعودة إلى الحياة 

الرَّجل1: أحقاً! 

جنَّة: أتود العودة؟ 

الرَّجل1: وأنت معي… أجل… أحب. 

جنَّة: أنا لا أحبّ. 

الرَّجل1: إذاً سأبقى بقربك. 

جنَّة: بل تبقى عند رغبتي… أيها الرَّجل المشاكس، العنيد. 

الرَّجل1: ما بك؟ ما الذي تغيَّر؟ لِمَ تقسين عليّ!؟ 

جنَّة: أما عرفتني بعد؟! 

الرَّجل1: العاشق لا يعرف معشوقه، وأنا عاشق. 

جنَّة: ومهما طلبت منك، لا تعاند. 

الرَّجل1: ليست لي قوّة الرَّفض.. إرادتي منك… وبدنوِّك شُلَّت إرادتي. 

جنَّة: أحبُّك كما أنت. 

الرَّجل1: وأحبُّكِ كما أنتِ، لا كما أشتهي. 

جنَّة: وماذا تشتهي أن أكون؟ 

الرَّجل1: أميرة قلبي، مالكة أسراره. 

جنَّة: أنا أكبر من أميرة، خفقت قلوب الرّجال لي. 

الرَّجل1: أعرف… لكِ 

جنَّة: عشّاق من كلّ مكان، في كلّ زمان، حتى صرتُ إلهة العشّاق، معبودتَهم، سرَّ وجودهم، وإلهامهم. 

الرَّجل1: ياهيا جنَّةأحبُّك بقدر الرّجال كلّهم، بل أضعافاً مضاعفة. 

جنَّة: وإنْ طلبتُ منك أن تموت من أجلي؟! 

الرَّجل1: الموت من أجل الحبيب، ليس بموت. 

جنَّة: لأنَّك ستكون خالداً. 

الرَّجل1: خلودي من وجودي معكِ. 

جنَّة: بل بالمفارقة يا حبيبي… المفارقة، تخلق الخلود. 

الرَّجل1: أليس الموت مفارقة؟! 

جنَّة: ليست كل الميتات خالدة. 

الرَّجل1: وتحبّين أن أكون خالداً. 

جنَّة: مات الرّجال تحت قدميَّ، يدافعون عنّي، يتقاتلون من أجلي، من أجل تراب أقدامي، زهقت أرواحٌ، وشُجَّت رؤوسٌ، ومُزّقت بطون. 

الرَّجل1: ياه 

جنَّة: حرب امتدت ثماني سنوات من أجل جنّتك. 

الرَّجل1: أتذكّرها. 

جنَّة: وحرب عاصفة، كُسر بها جيش، وطُورد، واستنزف من أجل حبيبتك. 

الرَّجل1: عشتُها… تلك اللحظات، وانكسار جيش وتحطُّمه، وإحساس الخذلان يطوّق نفوسه. 

جنَّة: ومن أجل جنّتك خُطف أناس، وعُذّبوا وقُتلوا، ومنهم من لم يزل بالسُّجون قابعاً، لا يعرف ليله من نهاره، سجون سوداء، مثل الليل، سرّية، لا نافذة، ولا هواء نقيّ، وقد أكلهم الجُذام، وابتلعهم المرض، فهُشّمت إرادتهم، وصاروا يخرّون تحت قدميَّ، يقبّلونها 

الرَّجل1: جنَّتي…أأنتِ إلهة الموت!!؟ 

جنَّة: جنتك إلهة الخلود، والموت خالد. 

الرَّجل1: قاسية، تضربين بسيف الكلمات، فتُحدثين مياسم من طرق القهر لا نهاية لها.. أنتِ أيَّتها الجنَّة، تستبيحين مشاعري وتقتلين أفكاري. 

جنَّة: وما أفكارك!؟ 

الرَّجل1: حبي لك فكرة يا جنَّتي. 

جنَّة: ولكني لا أحب الأفكار، إلا ما كان منها خالداً. 

الرَّجل1: تقتلين حبّي وتعلقين وجودي بين الشَّيء وعدمه. 

جنَّة: (تضحك بصلافة وقوّة) مسكين عالمنا، نحيا فيه بدون عنوان، دون أن نفكّر فيه للحظة. 

الرَّجل1: أتسخرين من رجل يقبّل الأرض التي تمشين عليها. 

جنَّة: لأنَّني الأرض التي جعلتك تقف منتصباً. 

الرَّجل1: ما الذي يفعله رجل عشقك، حَدّ الموت؟ 

جنَّة: حَدّ الخلود. 

الرَّجل1: أليس الموت خالداً؟! 

جنَّة: الكلُّ في طريقه إلى هذه النّهاية، لكنْ أن تموت من أجلي. 

الرَّجل1: مِتُّ من أجلك، وأنتِ لم تموتي. 

جنَّة: وأنتَ لم تمت أيضاً، ألا ترى نفسك تحاورني. 

الرَّجل1: ماذا؟ فعلاًلحظة، لكنَّ العالم اختلف، لم يعد ذاك العالم الأليف الذي أعرفه. إنّه عالم مختلف. 

جنَّة: تحوَّل… لكنَّك لم تزل حيّاً بحبّك لمعبودتك، لجنّتك. 

الرَّجل1: لقد احترقنا معاً. 

جنَّة: ولم تحسَّ بالنّيران. 

الرَّجل1: بلى 

جنَّة: أيُّها المعتوه، إنَّ جنّتك هي حارستك. 

الرَّجل1: أنتِ يا جنَّتي… يا حُلمي، يا أقرب إليَّ من أنفاسي… أنتِ لغز كبير، مخيف، وصعب فهمه. 

جنَّة: لا تُفلسف ما تُدرك، بل أدرك ما تشتهيه نفسك. 

الرَّجل1: كل ما قلتِهِ، وما يمكن أن تقوليه، لن يغيَّر من الأمر شيئاً، أنتِ حيرتي وجمالي، قوَّتي وضعفي، أنتِ النَّفس داخل الجسد. أنتِ السَّخط والوئام. أنتِ العالم الذي كنتُ أعرفه، وأفهمه، وبرمت منه، واخترتكِ أنتِ جنَّتي بين نساء العالم، لأمضي معها عمري. 

جنَّة: لأمتعك!! (تضحك) 

الرَّجل1: نعم.. وما الضَّير؟ فالعاشق للعاشق، سلوى. 

جنَّة: جنَّتك أيُّها العاشق، طريقها مختلف، وامتحانها عسير، قد لا تقدر عليه ولا تقوى، ولن تستطيع. 

الرَّجل1: أما أحرقت نفسي؟! 

جنَّة: وبتعويذه سحرية مني صارت النار ماءً بارداً. 

الرَّجل1: بلى… بلى جنَّتي… أنتِ إلهة الزَّمان. 

جنَّة: لكن كرهت العالم الذي عرفناه. 

الرَّجل1: لنبقَ بهذا العالم… لا أحد فيه غيرنا، وكأنَّنا في جزيرة نحيا وحدنا 

جنَّة: لا… أريد خلوداً أكبر من خلودي، وأريدك معي خالداً. 

الرَّجل1: خلودي بقربكِ أو خلفكِ. فأنتِ وطني الذي غادرته، ووطني القادم الذي أريده. 

جنَّة: هناك، أعلى الصَّخرة، نذهب معاً. 

الرَّجل1: وماذا نفعل؟ 

جنَّة: وتحتها وادٍ مظلم بعيد. 

الرَّجل1: ماذا نفعل في الأعلى؟ 

جنَّة: تمسك بيدي بقوَّة. 

الرَّجل1: أمسكها، وبعد؟ 

جنَّة: نلقي بأنفسنا… لنكون خالديْن 

(صمت) 

الرَّجل1: ألم نمت ميتتنا 

جنَّة: ستموت، ما دمتَ بلا وطن، وما دمتُ صرتُ لك وطناً. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

* كاتب وناقد من العراق