غربة

غربة

نصوص 

غربة 

هشام بنشاوي 

 

قال أحد رواد المقهى: تحت ظلال تلك الشجرة العملاقة، اعتادت النسوة الجلوس تحت ظلالها الوارفة، في انتظار أن ينتهي عمال مطحنة “الجيعان” من مهامهم، فيحملن أكياسهن، وينصرفن.  

علّق جاره بنبرة حداد: هذه الشجرة عمرها عشرون عاماً. في كل ظهيرة، كان تجار الحي يلوذون بظلالها، حين يطردهم قيظ الصيف من محلاتهم. كما ترون، فهي مائلة قليلاً، وكأنها آيلة للسقوط على قارعة الطريق.
الشقيق الأصغر لذلك الجائع، كان رجل أمن، تم طرده من عمله بسبب فضيحة ما، أظن رشوة! هو صاحب الدكان، الذي يعمل فيه بقال عشريني، اشتكي من الشجرة مراراً، يتهمها بأنها سبب ركود تجارته، لأنها تحجب باب الرزق عن المحل المتاخم للمطحنة. اختار الأخ الأكبر يوم الجمعة، لكي يذبح هذه الشجرة، معتقداً أن النحس سيزول. البقال العازب يفتح دكانه متأخراً.. ليس لديه زوجة أو أبناء يجبرونه على أن يستيقظ مبكراً، كغرمائه الثلاثة في هذا الشارع.  

استطرد المتحدث الأول هازئاً: يكنس رصيفه، على الساعة التاسعة صباحاً، بينما الآخرون يشرعون في العمل قبل طلوع الشمس. يبدأ في الكنس بعد أن ينتهوا من بيع كل خبز الصباح، ثم يغلق عند الظهيرة أيضاً، ولا يفتح دكانه إلا عصراً. كما ترى، صاحب المطحنة استغل علاقاته مع بعض المسؤولين، فاختفى موظفو البلدية بسرعة، وكأنَّ شيئاً لم يقع، رغم أشغال بتر الأغصان الشاهقة، وسقوطها المدوي على الإسفلت، وعرقلة المرور.. انظر كيف تتفادى النساء وأطفالهنّ العائدون من مدارسهم هذا الرصيف، الذي احتلته أنقاض هذه الشجرة، ويعرضون أنفسهم لخطر حوادث السير، وهذه جريمة أخرى! ذلك الموظف يكتفي بأن يحوم حول الجذع، الذي بقي منتصباً كبرج مائل، قبيح المنظر، وهو يصوره من كل الجهات، بينما هذا “الجيعان” يتحدث، وهو يحرك يديه يميناً ويساراً. 

**** 

من ركن قصيّ في ذلك المقهى المتاخم للمذبحة، يحدّث كهل جليسه في حرقة: الوغد! سبب لي مشكلة كبيرة. سوف ألقنه درساً حين أعود إلى “بني ملال”. أخبرته أنني جئت للعمل في بيت عميل قديم لمدة يومين، لكن العمل استغرق أربعة أيام. لقد تسربت مياه كثيرة إلى سقف بيت الرجل، فاحتاج إلى أكثر من طلاء. لا أستطيع أن أخسر شخصاً كهذا، بينما آخرون يتصلون بي وأعتذر. لكن صديقي، الذي طلبت منه أن ينوب عني في العمل ليلاً، لا يرد على الهاتف. علمت أنه لا يذهب. أصحاب المحلات التجارية والشاحنات قرروا فسخ عقدي معهم في غيابي، والبحث عن حارس ليلي جديد.  

 الوضيع.. كنت أبيت في بيته مع أبنائه في ليالي غيابه، ويتعامل معي بهذه النذالة، بعد أن انتشلته من بطالته.  

تلك الشجرة، أنا من أنقذها من بطش الرياح التي أوشكت على اقتلاعها، قبل خمسة عشر عاماً. الحبل لم يكن متيناً. كان يجب أن يحدث ذلك حين كان جذعها طرياً. كنت أعمل، هنا، بنّاء. هذه مهنتي الحقيقية، وعملي الإضافي كحارس ليلي، يتيح لي البحث عن عمل حر ومستقل نهاراً. لم أعد أحب عبودية العمل في ورشات البناء. كنت أعمل في حي المطار، هنا. كنت أسكن في بيت مشترك مع البنائين. في المساء، كنت أعدّ عشائي البسيط. رائحة أحذيتهم، التي ينتعلونها طوال النهار، تغمر المكان، وتزكم الأنوف، وهم يرمونها أينما شاؤوا. 

**** 

تقف امرأتان قبالة المقهى، تنظر إحداهما إلى صاحب المطحنة، وهو يقف على رصيف الضفة الأخرى، ويدسّ يده في جيبه، بينما المرأة الثانية ترنو إلى العمال، وهم يرفعون الأغصان، ويلقون بها في جوف الشاحنة الكبيرة، وكمن تعترف بذنب: حتى يوم العطلة الأسبوعية، يفتح مطحنته مبكراً، لكي يبيع بضع كيلوغرامات من مسحوق القمح، الذي يستخدم في “الكسكسي”. إنه يبيع كذلك البيض “البلدي”، الذي يجلبه من مزرعته. يلتقط أكياس الخبز اليابس، التي نضعها على الرصيف أمام بيوتنا، ويقدمه علفاً لأبقاره. 

 “جيعان”! من يراه يظنه معدماً، لا يملك أي شيء! 

ضحكت المرأة الأخرى، وبنبرة أسى فصيح قالت: 

إنه سمسار في المحافظة العقارية. لديه مكتب هناك. كان مقاولاً. أخي كان يعمل معه، ومع أخيه قصير القامة، قبل أن يفضّا شركة البناء. هذا البيت الذي توجد أسفله المطحنة مازال مشتركاً بينهما. كان والدهما يعمل معهما حارسًا ليليًا. كل مغيب، ينحدر من قريته راكباً دراجة هوائية متهالكة.. يبدو أن الجوع مرض وراثي في العائلة! 

ضحكت المرأتان في بهجة حقيقية. 

 استقل الموظفون سيارتهم الحكومية، التي تحمل شعاراً أخضر، يشي بأنهم من مصلحة حريصة على البيئة. 

**** 

 

أقبل الكهل الذي يسري في دمه جوع مزمن، جذب كرسياً جانبياً، وجالس الرجل المريب، الذي كان ينتقل من ركن إلى آخر. 

 قام الشاب الجالس مع بائع الفواكه المتجول في الصف الأمامي، من مقعده، حين اختار ذلك الغريب أن يجلس خلفهما، تاركاً كل الطاولات الشاغرة على رصيف المقهى. بدا مريباً بصمته اللزج ونظراته الذئبية. وقف أمام محل تجارته، طلب من صديقه بائع الفواكه ألا يتحدثا عن تغاريد الحسون: يبدو مثل مخبر تابع لتلك المصلحة، التي حولت تربية الحسون إلى ما يشبه المتاجرة في المخدرات، بسبب قانون الحيازة. هناك، شبان عاطلون عن العمل، يقومون بإبادة الطبيعة، بسبب الصيد الجائر لطائر مهدد بالانقراض، لكن الخطر الحقيقي يكمن في حضن جمعيات تدّعي رعاية هذا الشغف، بينما أعضاؤها يسرقون أعشاش الحسون، وأحياناً، بيضه من بين الأغصان، لأن الفراخ الصغيرة تحفظ شريط التلقين كاملاً، خالياً من العيوب؛ تغاريد الطيور البرية. 

 الأوغاد ! 

بالأمس، كان معهما صديق ثالث، معلم. كان يجلس في مكان الرجل ذي النظرات المريبة. طلب الشاب الأربعيني من ذلك المعلم إعادة تشغيل مقطع أغرودة الـباجباطي” الطروب، المتراقصة، وضحكا حتى الدمع، بعد أن لكز الشاب صديقه البائع باسماً، لكي ينتشله من شروده المباغت: هل تذكرت خديعة طيور البادجي، التي هربت من القفص؟! 

اعتاد الشاب المولع بالتغاريد أن يتوجه صوب تلك الشجرة كالمسحور، عند سماع ذلك الغناء الشفيف، يبحث عن ذلك الشحرور، الغريب عن المكان، المختلف تغريده عن بقية طيور المنطقة، ويتمنى -مراراًأن يستوطن هذا الحي، حتى يستمتع بتغريده الشبيه بشدو البلابل.  

ومن كرسيه، تابع يمامة تتقافز بين ضفتي الشارع. تذكر أنه كان يرى أحياناً قِطاً يتسلق أحد أغصان تلك الشجرة، ويتسلل نحو أحد أعشاش اليمام. 

لعن في سره ذلك الرجل المريب، حين تناهى إلى مسامعه صوته الأنثوي، وهو يسأل صاحب المطحنة عن الثمن، الذي يمكن أن يبيع به -لزج الملامح والصوت- شقته.  

في هذه المقهى، اعتاد الجائع مجالستهم بعد إغلاق المطحنة، ولا يستطيع صاحب المقهى أن يطلب منه أن يسمح له بإغلاق مقهاه، بعد التاسعة مساء. كان يكتفي بالنظر إليه وإلى عميله، وهو يتثاءب. يغبطه الشاب الأربعيني على قدرته على أن يخفي حنقه. إنه الوفي الوحيد من الزبائن القدامى.  

 أغلبهم هاجر إلى المقهى الجديد، الملاصق لبيت يقبع تحته محل الشاب الأربعيني. أحياناً، يصير الرجل الستيني مكتئباً، حين يجلس وحيداً في مقهى بلا زبائن، في مدينة تعج بالمقاهي. لا يمكنه أن يضحي بسمسار صاحب صفقات كبيرة، يقابل كثيرين هنا، ضمنهم بعض سكان الدواوير المجاورة -كانوا زبائن قدامى- يؤجلون بيع نصيب من حقول جرداء، حتى يستشيروا هذا الرجل القريب من المسؤولين. 

انتصب البائع المتجول واقفاً، دفع عربته في اتجاه الساحة القريبة، التي تشهد بعض الرواج عقب صلاة المغرب، بينما انهمر سيل من الشتائم البذيئة في سر الشاب الأربعيني، وهو يلعن الرجل مريب النظرات، وصوته اللزج كوجهه ناعم الخدين. تخيله في تلك اللحظة خنثى، وبصق في وجهه… في خياله!  

استمر يتابع بعينيه تحليق اليمامتين الغريب، وهما تطيران من شرفة إلى نافذة، ثم إلى سور سطح، في لهفة غريبة، بين ضفتي الشارع. همس لنفسه: حتماً، كان هناك… قبل انطلاق الشاحنة، سأل أحد العمال، فأجابه: كان هناك عش فارغ. قال لنفسه: حديث البناء! استحضر تجربته في تربية بعض الطيور، خلال العامين الماضيين. استرجع نصيحة عدم تحويل مكان القفص أو تحريكه، وعدم لمس العش بعد بنائه، أو العبث به، حتى لا تنفر الأنثى بيضها، وأحس بوخزة حقيقية في قلبه.  

كان ينظر إلى الشاحنة، وهي تنهب الطريق متلفّعة بعباءة المغيب في ذهول، واليمامتان تحومان كزوج أصيب بمس جنون طارئ، وتواصلان التحليق على ارتفاع واطئ، دون الابتعاد عن محيط الشجرة، كأنما يشدهما خيط خفي إلى المكان. 

 تخيل -لبرهة- أنهما ستحاولان اقتفاء أثر الشاحنة، ومطاردة تلك الأغصان، التي استسلمت لحتفها الذليل، بينما جذع الشجرة الضخم بقي منتصباً في وقفته المائلة كشاهد أبكم على اغتيال عقدين من الخضرة والظلال، بيد أنه رأى إحداهما تنقر زجاج شباك عالٍ، كأنما تحاول دخول تلك الحجرة، بحثاً عن شيء مفقود هناك، بينما الأخرى جثمت فوق عمود الإنارة كسيرة.  

انتابه الشرود، وفكر في كتابة نص عن غربة الحطب. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

* كاتب وروائي من المغرب