فتنةُ التَّرحال

فتنةُ التَّرحال

الكلمة شراع  

 

 

فتنةُ التَّرحال 

 

هالة البدري* 

                           

      بدأت الكتابة عن الرَّحلات تتحوّلُ إلى أدبٍ مخصوصٍ، بسحرِ عالمها، وزيادةِ الاهتمام بصياغتها اللغوية، وترسّخ خصائصها الفنيةِ. وقد ظهر نوع آخر من أدبِ الرِّحلةِ قائمٌ على الخيالِ والمغامرات التخيّلية، وبعضه يعتمد على وقائع حقيقيةٍ وشخصيات تاريخية، مثل رحلات السندباد، وقصة ابن طفيل عن حيّ بن يقظان، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ورحلات ابن بطوطة 

      وانتشرت مثل هذه الرحلات شفاهة أولاً، لأن بعضها كُتب شعراً، ثم دُوّنت بعد ذلك، واكتسبت شعبية كبيرةً، وتناقلتها الأجيال مثل الملاحم الإغريقية والسومرية والرومانية الكبرى. وكان بعضها معروفَ المصدر، وبعضها غير معروف، مثل الإلياذة، والأوديسا لهوميروس، ورحلة جلجامش إلى العالم السفلي، ورحلة أبي زيد الهلالي عند العرب.  

    لهذا يكون من الطبيعي أن تكون كتابات النساء قليلة، لأنهن بدأن الرحلات متأخرات عن نظرائهن من الرجال، وأن تكون كتابة النساء العربيات أقل لأنهن لم يمارسن الترحال والكتابة عنه، ولأن حوّاء لم تكتب بنفسها رحلتها الأشهر والأكثر تأثيراً في البشرية من الجنة إلى الأرض. دُوّنت رحلة الملكة المصرية حتشبسوت إلى بلاد بونت، وكذلك رحلات بلقيس ملكة سبأ، واشتهرت في هذا الأدب: الأميرة سلمى بنت ملك اليمن وزنزبار، التي هربت مع تاجر ألماني في القرن الثامن عشر، وكتبت عن رحلتها تلك، كما عرف العرب إفلين بسترس، ورحلاتها عام 1878م، وعنبرة سالم الخالدة عام 1897م، وفي الغرب صوفي لا روش، وماري مونتاجو الإنجليزية عام 1689م. حتى سهُل التنقّل، وأصبحت الرحلات غير محفوفة بالمخاطر، فعرفنا مراسلات حربيّات، وربما تكون أشهرهن هي مارثا جيلهورن (1908-1998م)، التي نافست هيمنجواي في تغطية الحرب الأهلية الإسبانية، وتزوجته بعد ذلك، والتي كُرّمت بإطلاق جائزة للصحافة باسمها. وفي العصر الحديث، كتبت العديد من النساء أدب رحلات، وتخصّص بعضهن في كتابته، منهن الكاتبة المصرية وفاء عوض، والدكتورة عواطف عبدالرحمن، الكاتبة السياسية، وغيرهن. فأين أنا من هذا كلّه؟ لقد سبق لي أن كتبتُ عن سحر الأمكنة: في انتظار الحكايات، واللُعَب وقطع الشكولاتة، والملابس الملوّنة، وقصص الأفلام الجديدة والمسرحيّات، ومغامرات الطائرات والسفن، والحافلات، والبشر، وشرائط الموسيقى والغناء، ورقصات الشعوب المختلفة، قضيت الوقت في طفولتي المبكرة وصباي أترقب عودة أبي من السفر، من بحثه الدائم وراء متعة الرحيل واكتشاف العالم. تعلمت أن أرى المدن بعينيه، وأشمّ رائحتها، وأتذوّق طعامها أحياناً، إذ كثيراً ما حمل في حقيبته أنواعاً مختلفة من الفاكهة الغريبة، أو المعلّبات غير المعروفة لنا، وبعض التوابل والأزهار، قائلاً: «كلّ شيء ثقافة، حتى الطعام. أريدكِ أن تعرفي». وحين مررت بالمدن ذاتها بعد سنوات، رحت أبحث عن مسار حركته فيها، وأتذكر حكاياته عنها، وقلت لنفسي: سأكتب ذات يوم عن هذه المسافة بين مدنه ومدني، لكنني لم أفعل، إذ استغرقتني اللحظة ذاتها، لحظة المعرفة بيني وبين المدينة، والناس، والزمن المتراكم فوق الجدران. ووجدت نفسي في لحظة رحيلي عن المدن أردّد، من دون أن أشعر، مقولته الشهيرة ونحن نغادر أيّ مدينة: «عَوداً عَوداً يا أولاد»، متمنّية أن أعود إليها مرة أخرى. وقد كافأتني الكثير من المدن بدعوتي إليها مرات عديدة. 

ودائماً ما كنت أستهلّ رسالتي عن المدينة بهذه الجملة: 

المدن مثل البشر، بعضها له قبول يفتح ذراعيه لك، وبعضها ينغلق عليك.. بعضها يسعى إليك، وبعضها تسعى إليه، ويا بخت من كانت المدن هي التي تهرول نحوه.  

وقد حالفني الحظ الطيب مع مدن وقرى وربوع كثيرة قابلتني ببشاشة، وبادلتني حباً بحبّ. في رحلاتي أماكن، وبشر، ومؤتمرات، وقضايا، ورياضة، وفنون، لأنه من الطبيعي أن تعكس حركتي اهتماماتي، وأن تعكس أيضاً حركة المجتمعات في هذه البلاد. وقد شعرت بعد أن أنهيت إعداد كتاب سحر الأمكنة أنه يعكس نوعاً ما من السيرة، ليست سيرة الحركة فحسب، وإنما سيرة الانتقاء، فما ننتقيه يمثلنا على أي حال. وقد قمت بجمع كل ما يتعلق برحلات الولايات المتحدة الأمريكية في كتاب منفرد اسميته «في بلاد الأمريكان»، وكنت قد زرتها ذاك الوقت خمس مرات، مدّة كل منها تزيد على الشهرين، وشعرت بأنه من المستحيل أن أضمها داخل الكتاب. في كتابي الأول سحر الأمكنة“، قسمت فصول الكتاب إلى مدن غربية، ومدن عربية. أول دولة زرتها خارج مصر كانت ليبيا، وكان عمري ست سنوات، ذهبت إليها مع أسرتي بعد أن انتقل أبي ليعمل قاضياً في مدينة طرابلس، ثم مدينة مصراتة، وكتبت عن هذه الرحلة مجموعة من القصص ضمّنتها مجموعتي القصصية التي نشرت العام الماضي مدارات البراءة“. أما رحلتي الثانية، فكانت إلى بغداد، حيث عملت مراسلة صحفية لروزا اليوسف بعد تخرّجي عام 1975م مباشرة، وتوالت زيارتي للمدن العربية والأجنبية. لكن تبقى تجربتي في العراق هي الأهم على الإطلاق، إذ لم يتكرر سكني في أيّ مدينة لمدة خمس سنوات ونصف أبداً، ولم تصل معرفتي بأيّ بلد لهذه الدرجة. 

 

*كاتبة وروائية من مصر.