30 عاما.. رحلة من أجل البقاء

واحدٌ من أهمّ المقاييس التي يقاس بها تقدُّم الدُّول، بقاء المواليد أحياءً بعد فترة من ولادتهم… وطول الأعمار مؤشّر آخر على اهتمام الحكومات بصحّة مواطنيها، وتقديم الرّعاية الصّحّية لهم.
وإذا كنّا نصف الإصدارات الجديدة بأنّها “مواليد”، فإننا نحبّذ -حينئذٍ- الاحتفالات السّنوية بقدرتها على تخطّي سنة إضافية وانتقالها إلى سنة جديدة، لتأخذ نفساً في مواجهة الآتي، والذي غالباً ما يكون أصعب ممّا مضى، خصوصاً للإصدارات المتخصّصة كالإصدارات الثّقافية في وطننا العربيّ، التي يمكن بسهولة عدّ ما مضى منها إلى غير رجعة، ونترحّم على إصدارات شكّلت وعياً عربياً ثقافياً شبه جمعيّ، نظراً إلى انتشارها، وتلهّف القارئ العربيّ على القراءة والمتابعة في أزمنة مضت… لقد كافحت تلك الإصدارات، المجلات العريقة، ما وسعها القتال، ولكنّها – للأسف – لا تحسن دخول المعارك التي يكون فيها الفوز كالخسران المبين… النّصر المتمثّل في استمرار الصّدور والبقاء، على حساب الجودة والرّقي، فأنْ تبقى يعني أن تتنازل، فتختار هذه الإصدارات العزيزة النّفس أن تبقى في الوجدان الثّقافيّ العربيّ، على أن تصبح إصداراً أضاع سيرته، ولم يستطع اللحاق بسيرة التّنازلات لأنّه لا يحسنها.
اليوم إذ تحتفل “البحرين الثّقافية” بذكرى ميلادها الثّلاثين (منذ أبريل 1994)، فإنّها تستذكر كلّ ما مرّت به من أوقات ومنعطفات، منها ما ضاق عن سمّ الخياط، ومنها ما كان باتّساع السّهل والجبل، ولكنها في كلّ ذلك نجحت ومرّت… تغيّر تصميمها، وحجمها، وعدد صفحاتها، وتبويبها مرات عدّة، ولكنّها تمكّنت من الاحتفاظ بخطّها الثّقافيّ الرّصين والقيم، بإيمان القائمين على الثّقافة في هذا البلد، كوزارة الإعلام سابقاً، وهيئة البحرين للثّقافة والآثار حالياً، وبقرّائها على امتداد الوطن العربي الذين يغمرون المجلة بعطاءاتهم، ونجحت أيّما نجاح في استقطاب أقلام أهمّ الكتاب والمبدعين في كلّ حقول الثّقافة والإبداع في الوطن العربي، لتبقى مستمرة وقائمة في هذا الزّمن الصّعب، ما دامت تنفق ولا تجلب الأرباح المباشرة، إذ تتناسى هذه النّظرةُ أنّ الثّقافة استثمار بعيد المدى، طويل الأمد، بطيء النّتائج، يحتاج إلى التّراكم، والتّنوّع، والانفتاح، ليهندس مجتمعاً طيّب الأعراق.
وعلى الرُّغم من “الرّدة” الثّقافية عربياً، قبالة زيادة جرعة التّرفيه – في هذا الزّمن الصّعب – فإنّ عواصم عربية أيضاً، باتت تعي أهمّية استعادة الدّور الثّقافي الإبداعي بشموليّته، وراحت تحيي مجلّات سبق أن أغلقتها حاجتها المادّية، وأخرى تثبّت اسم بلادها من خلال المهرجانات، وعواصم لا تتوانى عن طرح الجوائز والمسابقات في المجالات الإبداعية، في رغبة جامحة بألّا يذكر اسم هذا البلد، أو تلك العاصمة، إلا وذُكر فعلها الثّقافي الذي يتعاظم وينبت نخيلاً سامقة على مرّ السّنين.
في السّنين الثّلاثين الماضية، استطاعت مجلّة “البحرين الثّقافية” أن تسدّ فراغاً تركته – بالكاد – مجلّة “كلمات” التي توقّفت أسرة الأدباء والكتاب عن إصدارها في السّنة نفسها التي وُلدت فيها “البحرين الثّقافية”، وكأنّما تسلّمت شعلة بقاء اسم البحرين في المشهد الثّقافي المحلّي والعربي، وليكون للبحرين – التي تجاوزت حجمها وجغرافيتها الصّغيرة بفضل كثرة مبدعيها ومبدعاتها وتميّزهم وتعدّد منطلقاتهم، واختلافاتهم الإبداعية الرّائعة بمدارسهم ومشاربهم المتنوّعة في كلّ المجالات – وعاءٌ ثقافيٌّ في شكل مجلّة تقول للعالم العربي المنشغل كثيراً بمراكزه وحواضره: إنّ للأطراف والأجنحة دوراً موازياً لا يقلّ أهمّية، ولا يقصر عن أداء دور تنويريّ كالذي قدحت زنده تلك العواصم العربية العزيزة.
إذا أيقنّا أنْ ليس هناك زمان يحتاج الثّقافة أكثر من غيره أو أقلّ، فإنّنا ندرك أنّ استمرار الدّور الذي تؤدّيه الإصدارات الثّقافية الرّصينة اليوم – ومن بينها “البحرين الثّقافية” – بحدّ ذاته نجاحٌ في النّجاة بأرواحنا من التّسطّح، وإليها تشدّ حبال ذوائقنا في الفنون والآداب، لنلازم التفكّر في ذواتنا وفي العالم.